إن البدء بالحديث عن هذه الفتنة يأتي من كونها نتيجة تراكم مجموعة من الفتن تنشأ الغربة بسببها، ويحسن بنا في بداية الكلام عن هذه الفتنة أن نتطرق لحديث الغربة والغرباء الذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من عدة طرق، ثم نعرج على كلام السلف في شرحهم لهذا الحديث، ونختم الموضوع بذكر بعض مظاهر الفتنة في عصور الغربة وخاصة في زماننا اليوم.
روايات حديث الغربة:
1= عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء» قيل: ومن الغرباء؟ قال: «النّزّاع من القبائل» الترمذي 5/18، أحمد 1/398، والبغوي في شرح السنة 1/18 وصححه.
2= عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ غريباً، فطوبى للغرباء» قيل: ومن هم يا رسول الله؟ قال: «الذين يُصْلِحون إذا فسد الناس» أخرجه أبو عمر الداني في السنن الواردة في الفتن 3/ 633 وصححه الشيخ الألباني في السلسلة 3/ 267.
3= عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، وهو يأرِزُ بين المسجدين كما تأرز الحية في جحرها» مسلم شرح النووي 2/76.
4= عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ونحن عنده: «طوبى للغرباء» فقيل: من الغرباء يا رسول الله؟ قال: «أناس صالحون في أناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم» أخرجه أحمد 2/ 177، 222 وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند 6650.
من خلال هذا السرد للروايات الصحيحة لحديث الغربة يتضح لنا وصف حال أهل الغربة، وأنهم نُزّاع من القبائل، وهذا يشير إلى قلتهم، وأنهم يُصلِحُون إذا فسد الناس، وأنهم أناس صالحون في أناس سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم.
وتدلنا هذه الأوصاف المذكورة للغرباء أنهم أهل غيرة ودعوة وإصلاح ولم يكونوا صالحين يائسين مستسلمين لواقعهم الفاسد، كما تدلنا هذه الروايات على بقاء المصلحين مهما إشتدت الغربة ولو كانوا قلة ونزاعاً من القبائل، ولن تخلو الأرض من قائم لله بالحق حتى يأتي أمر الله عز وجل.
ولذلك والله أعلم صدّر الإمام الهروي، رحمه الله تعالى منزلة الغربة بقوله تعالى: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ القُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ إلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود: 116].
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في شرحه لمنازل السائرين عند هذه الآية: استشهاده -أي: مؤلف كتاب منازل السائرين- بهذه الآية في هذا الباب يدل على رسوخه في العلم والمعرفة وفهم القرآن، فإن الغرباء في العالم هم أهل هذه الصفة المذكورة في الآية -مدارج السالكين: 3/194.
من أقوال السلف في الغربة وأهلها:
ـ قال الأوزاعي رحمه الله في قوله: «بدأ الإسلام غريباً...» الحديث: إما إنه ما يذهب الإسلام ولكن يذهب أهل السنة حتى ما يبقى في البلد منهم إلا رجل واحد -كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة لابن رجب ص28، 29.
ـ وقال يونس بن عبيد رحمه الله تعالى: ليس شيء أغرب من السنة، وأغرب منها من يعرفها -كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة لابن رجب ص28، 29.
ـ وعن سفيان الثوري رحمه الله تعالى قال: استوصوا بأهل السنة فإنهم غرباء -كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة لابن رجب ص28، 29.
ـ وقال ابن رجب رحمه الله تعالى: وهؤلاء الغرباء قسمان: أحدهما: من يصلح نفسه عند فساد الناس، والثاني: من يُصلح ما أفسد الناس وهو أعلى القسمين وهو أفضلهما -كشف الكربة (ص32).
وقد شرح حديث الغربة هذا أئمة أجلاء منهم شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في -مجموع الفتاوى: 18/251، والإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في -منزلة الغربة: 3/194 والإمام الشاطبي رحمه الله تعالى في كتابه النفيس -الاعتصام: 1/97، والإمام ابن رجب رحمه الله تعالى في كشف الكربة فليرجع إلى هذه الشروحات ففيها فوائد جمة.
وخلاصة ما قاله الأئمة حول الغربة وأهلها:
1= أن الغربة المطلقة في كل الأرض لا تكون إلا قبيل قيام الساعة، أما قبل ذلك فلن تخلو الأرض من قائمين بالحق ولو كانوا قلة، ولكن قد توجد غربة تامة في مكان دون مكان وفي جانب من الشريعة دون جانب، والله أعلم.
2= أن أهل الغربة الممدوحين في كل مكان وزمان هم الفرقة الناجية، الطائفة المنصورة، أهل السنة والجماعة المتمسكة بالكتاب والسنة وفَهْمِ الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان.
3= أهل الغربة في كل مكان قليلون ولكن أثرهم على الناس عظيم، لأن من أهم أوصافهم أنهم يدعون إلى الله عز وجل ويصلحون ما أفسد الناس ويجددون لهم دينهم.
4= المخالف لأهل الغربة كثير، والأذى الذي يتعرضون له عظيم، لكنهم بالحق الذي يحملونه، والمهمة الشريفة التي يؤدونها، والصبر الجميل الذي يتحلون به ثابتون مطمئنون.
5= في حديث الغربة معنى لطيف أشار إليه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بقوله: وهو لما بدأ غريباً لا يُعرف ثم ظهر وعرف، فكذلك يعود حتى لا يُعرف، ثم يظهر ويُعرف -انظر مجموع الفتاوى: 18/305.
وفي هذا رد على من يفهم من أحاديث الغربة إنحسار الإسلام وعدم الأمل بعودته، وهذا ما يفهمه كثير من اليائسين من هذا الحديث، وفي كلام شيخ الإسلام السابق رد على هذا الفهم الخاطئ، وذلك أن الإسلام إذا عاد غريباً كما بدأ، فإنه سيعود قوياً ظاهراً كما حصل ذلك بعد غربة الإسلام الأولى.
وهذا الفهم الصحيح هو الذي تشهد له أحاديث صحيحة كثيرة، منها قوله: «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها» رواه مسلم في الفتن 2889، وقوله: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل: عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر» رواه ابن حبان بنحوه 6699 إحسان، وصححه الألباني في السلسلة 1/7.
6= الغربة في شدتها وعظم أجر أهلها ليست على رتبة واحدة وإنما هي متفاوتة، فهناك غربة أهل الإسلام بين أهل الأديان الكافرة، وأشد منها غربة أهل السنة والإيمان بين أهل الإسلام والفرق الضالة من أهل القبلة، وأشد منها غربة أهل العلم بين عامة أهل السنة، وأشد منها غربة العلماء المجاهدين الصابرين بين أهل العلم القاعدين، وهؤلاء هم الذين قال عنهم ابن القيم رحمه الله تعالى: هم أهل الله حقاً فلا غربة عليهم، وهم الذين قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: «إن من ورائكم أياماً: الصبر للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم»، قالوا: يا نبي الله أوَ منهم؟ قال: «بل منكم» -أبو داود في الملاحم 4341، والترمذي في التفسير 3508 وصححه الألباني في السلسلة 494.
7= أهل الغربة وإن كانوا قلة فهم السعداء حقاً ولا وحشة عليهم، وإن خالفهم أكثر الناس، فحسبهم راحةً وطمأنينةً أنهم في قافلة الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
مظاهر الغربة في زماننا اليوم:
يمكن إجمال أهم مظاهر الغربة في الأزمنة الحاضرة اليوم فيما يلي:
1) غربة في العقيدة، فلا يوجد مَنْ هو متمسك بعقيدة السلف من جميع جوانبها إلا القليل من الناس، حيث تنتشر الخرافة والشركيات والبدع في أكثر بلدان المسلمين.
2) غربة في تطبيق الشريعة والتحاكم إليها، فلا يُحكم اليوم في أكثر بلدان المسلمين إلا بأحكام الإفرنج الكافرة.
3) غربة في الالتزام بأحكام الإسلام، سواء ما كان منها بين العبد وربه، أو بين العبد وبين الخلق، فلا يوجد الملتزم بها إلا القليل.
4) غربة في السلوك والأخلاق الفاضلة، وتزامن ذلك مع إنفتاح الدنيا وكثرة الشهوات.
5) غربة أهل الحق ودعاة الإسلام، وتسلط الأعداء عليهم، وإيذاؤهم لهم بأشد أنواع الأذى والنكال.
6) غربة في عقيدة الولاء والبراء، حيث مُيّعَتْ هذه العقيدة عند كثير من الناس، وأصبح ولاء أكثرهم وحبهم وبغضهم للدنيا فحسب.
7) غربة في أهل العلم، حيث قلّ أهل العلم الشرعي الصحيح، وإنتشر الجهل وكثرت الشبهات وقلّ العاملون بالعلم والداعون إليه.
مظاهر الفتنة في أزمنة الغربة:
إن من أشد ما يخشى على أهل الإسلام في أزمنة الغربة أربعة مظاهر من الفتن يمكن إجمالها فيما يلي:
1- الفتنة التي تنشأ من الوقوع في الشبهات والتأثر بأهلها الذين هم الأكثرية في عصور الغربة، مما يحصل معه السقوط في فتن الشبهات سواء ما يتعلق منها بالعقائد أو الأعمال أو المخالفات الشرعية الأخرى، وتسويغ ذلك بشبهة شرعية تبرز عادة في غيبة الحق وفشو الجهل.
2- الفتنة التي تنشأ من الوقوع في الشهوات التي تطمّ وتنتشر عادة في عصور الغربة وقلة أهل الحق وانفتاح الدنيا بزخرفها على الناس، فلا يكاد يثبت ويستقيم على أمر الله عز وجل مع كل هذه الضغوط إلا القليل الذين يعتصمون بالله، ويقومون بأمره، ويدعون إلى سبيله، أما الكثرة الكاثرة الذين ضعف صبرهم، فتراهم يتنازلون عن دينهم شيئاً فشيئاً أمام مظاهر الغربة الفاتنة، سواء كان ذلك التنازل في العقيدة أو السلوك أو التزام الأحكام.
3- فتنة اليأس والقنوط من ظهور الحق وإنتصاره أمام تكالب الأعداء وتمكنهم وتسلطهم على أهل الخير بالأذى والإبتلاء مما قد يؤدي ببعض أهل الغربة إلى اليأس وترك الدعوة حين يرى إقبال الدنيا على المبطلين، ورؤية الناس لهم ناجحين مرموقين، تهتف لهم الدنيا وتصفق لهم الجماهير، وتتحطم في طريقهم العوائق، وتصاغ لهم الأمجاد، وتصفو لهم الحياة، وهو مهمل منكر لا يحس به أحد، ولا يحامي عنه أحد، ولا يشعر بقيمة الحق الذي معه إلا القليلون من أمثاله الذين لا يملكون من أمر الحياة شيئاً... فإذا طال الأمد وأبطأ نصر الله، كانت الفتنة أشد وأقسى، وكان الابتلاء أشد وأعنف، ولم يثبت إلا من عصم الله -في ظلال القرآن 5/2719، 2720 باختصار.
وإن فتنة اليأس والإحباط وترك الدعوة إلى عز وجل في عصور الغربة لا يقف عند حد، بل قد تؤدي بصاحبها والعياذ بالله إلى الضعف والنقص في دينه شيئاً فشيئاً أمام فتن الشبهات والشهوات، ذلك لأن أيامَ الغربةِ أيامُ فتنٍ وإغراءات وفشو منكرات وظهور وتمكين لأهل الباطل والفساد، فإن لم يكن للمسلم فئة صالحة ولو كانت قليلة يأوي إليها ويدعو معها إلى الله عز وجل حسب الوسع والطاقة فإنه لابد أن يتأثر بالفساد وأهله إلا من رحم الله عز وجل، ومن غير المقبول عقلاً وشرعاً وحساً أن يبقى المسلم محافظاً على دينه أمام الغربة وهو تارك للدعوة بعيد عن أهلها، فإما أن يؤثّر أو يتأثّر.
نعم! يمكن أن يترك المسلم الدعوة ويبقى محافظاً على دينه في حالة الإعتزال التام عن الناس في شعف من الجبال، ولا إخال هذا متيسراً في هذا الزمان، ثم لو كان ذلك ممكناً فمن ذا الذي يدعو إلى الله عز وجل ويواجه الفساد، وعلى أي حال فالعزلة الشرعية لها أحكامها وضوابطها التي سنعالجها إن شاء الله تعالى في حلقة قادمة.
إذن: فلن ينجو من فتنة الغربة في أي زمان أو مكان إلا أحد رجلين:
¤ إما مجاهد في سبيل الله عز وجل داع إلى الخير آمر بالمعروف وناهٍ عن المنكر.
¤ أو رجلٌ معتزلٌ عن الناس في مكان من الأرض يعبد ربه، ولا يخالط الناس.
وما سواهما فهو على شفا هلكة، ولعل هذا ما يفهم من الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «مِنْ خَيْرِ معاش الناس لهم: رجل ممسك عنان فرسه يطير على متنه، كلما سمع هيعة أو فزعة طار على متنه يلتمس الموت، والقتل مكانه، أو رجل في رأس شعفة من الشعاب، أو بطن واد من هذه الأودية يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين، ليس من الناس إلا في خير» -مسلم في الإمارة: 3/1503، 1504، 1889.
4- فتنة العجلة وقلة الصبر على الأذى في الغربة، مما يؤدي ببعض من يقاسي ضغوطها إلى التسرع والإصطدام مع أهل الفساد دون مراعاة للمصالح والمفاسد، فينشأ من جرّاء ذلك فتنة أشد وفساد أكبر على أهل الغربة.
الكاتب: عبد العزيز بن ناصر الجليل
المصدر: موقع المختار الإسلامى.